فصل: ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

  ذكر قتل أبي تغلب بن حمدان

في هذه السنة في صفر قتل أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بن حمدان‏.‏

وكان سبب قتله أنه سار إلى الشام على ما تقدم ذكره ووصل إلى دمشق وبها قسام قد تغلب عليها كما ذكرناه فلم يمكن أبا تغلب من دخولها فنزل بظاهر البلد وأرسل رسولًا إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة فرحل إلى نوى وهي من أعمال دمشق فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر أن العزيز يريد أن يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر فامتنع وترددت الرسل ورحل إلى بحيرة طبرية وسير العزيز عسكرًا إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية ووعده عن العزيز بكل ما أحب وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام لئلا يستوحش قسام وأراد أخذ البلد منه سلمًا ورحل الفضل إلى دمشق فلم يفتحها‏.‏

وكان بال رملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة العزيز من غير أن يتصرف بأحكامه وكثر جمعه وسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليخرجها من الشام فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها وكتب إليه دغفل يسأله أن لا يفعل فتوسط أبو تغلب الحال فرضوا بما يحكم به العزيز‏.‏

ورحل أبو تغلب فنزل في جوار عقيل فخافه دغفل والفضل صاحب العزيز وظنا أنه يريد أخذ تلك الأعمال‏.‏

ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين فلم يشك ابن الجراح والفضل أنه يريد حربهما وكانا بالرملة فجمع الفضل العساكر من السواحل وكذلك جمع دغفل من أمنه جمعه وتصاف الناس للحرب فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه فانهزم ولحقه الطلب فوقف يحمي نفسه وأصحابه فضرب على رأسه فسقط وأخذ أسيرًا وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه‏.‏

وأراد الفضل أخذه وحمله إلى العزيز بمصر فخاف دغفل أن يصطنعه العزيز كما فعل بالفتكين ويجعله عنده فقتله فلامه الفضل على قتله وأخذ رأسه وحمله إلى مصر وكان مع أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته وهي بنت عمه سيف الدولة فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة فأخذ أخته وسير جميلة إلى الموصل فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة فأرسلها إلى بغداد فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة‏.‏

  ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولة

في هذه السنة توفي عمران بن شاهين فجأةً في المحرم وكانت ولايته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء وبذلوا الجهد في أخذه وأعملوا الحيل أربعين سنة فلم يقدرهم الله عليه ومات حتف أنفه‏.‏

فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبدالله فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات وسار المطهر في صفر فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح فضاع فيها الزمان والأموال وجاءت المدود وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود فأعانه الماء فقلعها‏.‏

وكان المطهر إذا سد جانبًا انفتحت عدة جوانب ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء فاستظهر عليه الحسن وكان المطهر سريعًا قد ألف المناجزة ولم يألف المصابرة فشق ذلك عليه‏.‏

وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي فاتهمه بمراسلة الحسن وإطلاعه على أسراره وخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة ويشمت به أعداؤه كأبي الوفاء وغيره فعزم على قتل نفسه فأخذ سكينًا وقطع شرايين ذراعه فخرج الدم منه فدخل فراش له فرأى الدم فصاح فدخل الناس فرأوه وظنوا أن أحدًا فعل به ذلك فتكلم وكان بآخر رمق وقال‏:‏ إن محمد بن عمر أحوجني إلى هذا ثم مات وحمل إلى بلده كازرون فدفن فيها‏.‏

وأرسل عضد الدولة من حفظ العسكر وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه وأخذ رهائنه وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة وكان مقيمًا بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان حمد بن محمد‏.‏

  ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولة

في هذه السنة في رجب سير عضد الدولة جيشًا إلى بني شيبان وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد والفساد وعجز الملوك عن طلبهم وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور مصاهرات وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلة شهرزور لينقطع طمع بني شيبان عن التحصن بها فاستولى أصحابه عليها وملكوها فهرب بنو شيبان وسار العسكر في طلبهم وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير ونهبت أموالهم ونساؤهم وأسر منهم ثمانمائة أسير وحملوا إلى بغداد‏.‏

  ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منه

في هذه السنة وصل ورد الرومي إلى ديار بكر مستجيرًا بعضد الدولة وأرسل إليه يستنصره على ملوك الروم ويبذل له الطاعة إذا ملك وحمل الخراج‏.‏

وكان سبب قدومه أن أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين له صغيرين فملكا بعده وكان نقفور وهو حينئذ الدمستق قد خرج إلى بلاد الإسلام فنكى فيها وعاد فلما قارب القسطنطينية بلغه موت أرمانوس فاجتمع إليه الجند وقالوا له‏:‏ إنه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك فإنهما صغيران فامتنع فألحوا عليه فأجابهم وخدم الملكين وتزوج بوالدتهما ولبس التاج‏.‏

ثم إنه جفا والدتهما فراسلت ابن الشمشقيق في قتل نقفور وإقامته مقامه فأجابها إلى ذلك وسار إليها سرًا هو وعشرة رجال فاغتالوا الدمستق فقتلوه واستولى ابن الشمشقيق على الأمر وقبض على لاون أخي الدمستق وعلى ورديس ابن لاون واعتقله في بعض القلاع وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها ونال من المسلمين ما أراد وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم‏.‏

وكان لوالدة الملكين أخ خصي وهو حينئذ الوزير فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سمًا فلما أحس به أسرع العود إلى القسطنطينية فمات في طريقه‏.‏

وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة فطمع في الأمر وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره واستجاش بالمسلمين من الثغور فاجتمعوا عليه فقصد الروم فأخرج إليه الملكان جيشًا بعد جيش وهو يهزمهم فقوي جنانه وعظم شأنه وقصد القسطنطينية فخافه الملكان فأطلقا ورديس بن لاون وقدماه على الجيوش وسيراه لقتال ورد فاقتتلوا قتالًا شديدًا وطال الأمر بينهما ثم انهزم ورد إلى بلاد الإسلام فقصد ديار بكر ونزل بظاهر ميافارقين وراسل عضد الدولة وأنفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به فأجابه إلى ذلك ووعده به‏.‏

ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين وعاد عن نصرة ورد وكاتب أبا علي التميمي وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر بالقبض على ورد وأصحابه فشرع يدبر الحيلة عليه واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له‏:‏ إن ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا ولا شك أنهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم والرأي أن نرجع إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا أو على حرب نبذل فيها أنفسنا فإما ظفرنا أو متنا كرامًا‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا رأي ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل ولا يجوز أن ننصرف عنه قبل أن نعلم ما عنده ففارقه كثير من أصحابه فطمع فيه أبو علي التميمي وراسله في الاجتماع فأجابه إلى ذلك فلما اجتمع به قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد فبقوا في الحبس إلى أن فرج الله عنهم على ما نذكره وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة‏.‏

  ذكر عمارة عضد الدولة بغداد

في هذه السنة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها وعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها وأطلق مكوس الحجاج وأصلح الطريق من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة وفعل مثل ذلك بمشهدي على والحسين عليهما السلام وسكن الناس من الفتن وأجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين وأذن لوزيره نصر بن هارون وكان نصرانيًا في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم‏.‏

  ذكر وفاة حسنويه الكردي

في هذه السنة توفي حسنويه بن الحسين الكردي البرزيكاني بسرماج وكان أميرًا على جيش من البرزيكان يسمون البرزينية وكان خالاه ونداد وغانم ابنا أحمد أميرين على صنف آخر منهم يسمون العيشانية وغلبا على أطراف نواحي الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان وبعض أطراف أذربيجان إلى حد شهرزور نحو خمسين سنة‏.‏

وكان يقود كل واحد منهما عدة ألوف فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسماة قسنان وغانم آباذ وغيرهما‏.‏

وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين فقام مقام ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنخان وسلموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه‏.‏

وكان حسنويه مجدودًا حسن السياسة والسيرة ضابطًا لأمره ومنع أصحابه من التلصص وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة وبنى بالدينور جامعًا على هذا البناء وكان كثير الصدقة بالحرمين إلى أن مات في هذه السنة وافترق أولاده من بعده فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة وبعضهم إلى عضد الدولة وهم أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدرٌ وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك‏.‏

وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته ثم تلون عنه وتغير فسير عضد الدولة إليه جيشًا فحصره وأخذ قلعته وكذلك قلاع غيره من إخوته واصطنع من بينهم أبا النجم بدر ابن حسنويه وقواه بالرجال فضبط تلك النواحي وكف عادية من بها من الأكراد واستقام أمره وكان عاقلًا‏.‏

في هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجل فاحتوى عليها‏.‏

وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة بعد موت ركن الدولة ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة فأجابه إلى ذلك واتفقا‏.‏

وعلم عضد الدولة به فكتم ذلك إلى الآن فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب وبختيار وغيرهما ومات حسنويه بن الحسين ظن عضد الدولة أن الأمر يصلح بينه وبين أخويه فراسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس بن وشمكير‏.‏

فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة فيشكره على طاعته وموافقته فإنه كان مطيعًا له غير مخالف‏.‏

وأما إلى فخر الدولة فيعاتبه ويستميله ويذكر له ما يلزمه به الحجة‏.‏

وأما إلى قابوس فيشير عليه بحفظ العهود التي بينهما‏.‏

فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ ونسي كبر السن وسعة الملك وعهد أبيه‏.‏

وأما قابوس فأجاب جواب المراقب‏.‏

وكان الرسول خواشاده وهو من أكابر أصحابه فاستمال أصحاب فخر الدولة فضمن لهم الإقطاعات وأخذ عليهم العهود فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل وإصلاح تلك الأعمال وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضًا منهم أبو الوفاء على عسكر وخواشاده على عسكر وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر فسارت هذه العساكر وأقام هو بظاهر بغداد‏.‏

ثم سار عضد الدولة فلقيته البشائر بدخول جيوشه همذان واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه ووصل إليه أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير أصحابه فانحل أمر فخر الدولة وكان بهمذان فخاف من أخيه وتذكر قتل ابن عمه بختيار فخرج هاربًا وقصد بلد الديلم ثم خرج منها إلى جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير والتجأ إليه فأمنه وآواه وحمل إليه فوق ما حدث به نفسه وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره‏.‏

وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان والري وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد ونزل الري واستولى على تلك النواحي‏.‏

ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فقصد نهاوند وكذلك الدينور وقلعة سرماج وأخذ ما فيها من ذخائر حسنويه وكانت جليلة المقدار وملك معها عدة من قلاع حسنويه ولحقه في هذه السفرة صرع وكان هذا قد أخذه بالموصل وحدث به فيها فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ وكتم ذلك أيضًا وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد‏.‏

وأتاه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبي العلاء وأبي عدنان وأحسن إلى بدر بن حسنويه وخلع عليه وولاه رعاية الأكراد هذا آخر ما في تجارب الأمم تأليف أبي علي بن مسكويه‏.‏

  ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية

في هذه السنة سير عضد الدولة جيشًا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأوقع بهم وحصر قلاعهم وطال مقام الجند في حصرها‏.‏

وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج لترحل العساكر عنهم فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة فأرسلوا يطلبون الأمان فأجيبوا إلى ذلك وسلموا قلاعهم ونزلوا مع العسكر إلى الموصل فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج‏.‏

ثم إن مقدم الجيش غدر بهم وصلبهم على جانبي الطريق من معلثايا إلى الموصل نحو خمسة فراسخ وكف الله شرهم عن الناس‏.‏

في هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة برسائل أداها‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس وكان سبب قبضه ما تكلم به المطهر في حقه عند موته وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله فوجد له من المال والسلاح والذخائر ما لا يحصى واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد وولاه الحج بالناس‏.‏

وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة فتزوج الطائع ابنته وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولدًا ذكرًا فيجعله ولي عهده فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار‏.‏

وفيها كانت فتنة عظيمة ين عامة شيراز من المسلمين وبين المجوس نهبت فيها دور المجوس وضربوا وقتل منهم جماعة فسمع عضد الدولة الخبر فسير إليهم من جمع كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم‏.‏

وفيها أرسل سرية إلى عين التمر وبها ضبة بن محمد الأسدي وكان يسلك سبيل اللصوص وقطاع الطريق فلم يشعر إلا والعساكر معه فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريدًا وأخذ ماله وأهله وملكت عين التمر وكان قبل ذلك قد نهب مشهد الحين صلوات الله عليه فعوقب بهذا‏.‏

وفيها قبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين الموسوي والد الشريف الرضي وعلى أخيه أبي عبدالله وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسيرهم إلى فارس واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير وكان مقيمًا بفارس واستناب على القضاء ببغداد‏.‏

وفيها توفي أبو عبدالله أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء الروذباري الصوفي بنواحي عكا وكان قد انتقل من بغداد إلى الشام‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي محمد بن عيسى بن عمرويه أبو أحمد الجلودي الزاهد راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان ودفن بالحيرة في نيسابور وله ثمانون سنة‏.‏

الجلودي بفتح الجيم وقيل بضمها وهو قليل والحيرة بكسر الحاء المهملة وبالراء المهملة وهي محلة بنيسابور‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن زكرياء بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل وغيره‏.‏

وله شعر فمن ذلك قوله قبل وفاته بيومين‏:‏ يا ربّ إنّ ذنوبي قد أحطت بها علمًا وبي وبإعلاني وإسراري أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري وفي شوال توفي أبو الحسن ثابت بن إبراهيم الحراني المتطبب الصابي ومولده بالرقة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وكان عارفًا حاذقًا في الطب‏.‏

  ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة

  ذكر إقطاع مؤيد الدولة همذان

في هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولًا من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة فالتقاه عضد الدولة بنفسه وأكرمه وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد فرده إلى مؤيد الدولة فأقطعه إقطاعًا كثيرًا وسير معه عسكرًا يكون عند مؤيد الدولة في خدمته‏.‏

  ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدر

لما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك وفضل بدرًا عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه فشقا العصا وخرجا عن الطاعة واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين فاجتمعوا عليه فسير إليه عضد الدولة عسكرًا فأوقعوا بعاصم ومن معه فانهزموا وأسر عاصم وأدخل همذان على جمل ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم وقتل أولاد حسنويه إلا بدرًا فإنه ترك على حاله وأقر على عمله وكان عاقلًا لبيبًا حازمًا كريمًا حليمًا وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندة

وفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبدالله المري بنواحي الجبل وكان منزله بسندة وله فيها مساكن نفيسة وكان قديم البيت فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم فبقوا كذلك إلى أن أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد واستخدم ابنه أبا طاهر واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ‏.‏

  ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح وعزل قسام عن دمشق

في هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح‏.‏

وسبب ذلك أن ابن جراح عظم شأنه بأرض فلسطين وكثر جمعه وقويت شوكته وبالغ هو في العيث والفساد وتخريب البلاد فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها وجعل عليها القائد يلتكين التركي فسار إلى الرملة واجتمع إليه من العرب من قيس وغيرها جمع كثير وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب ويقاتلون قتال الترك فالتقوا ونشبت الحرب بينهما وجعل يلتكين

كمينًا فخرج على عسكر ابن جراح من وراء ظهورهم عند اشتداد الحرب فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين ومضى ابن جراح منهزمًا إلى إنطاكية فاستجار بصاحبها فأجاره وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الإسلام فخاف ابن جراح وكاتب بكجور بحمص والتجأ إليه‏.‏

وأما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق مخادعين لقسام لم يظهروا له إلا أنهم جاؤوا لإصلاح البلد وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين وهو والي البلد ولا حكم له وإنما الحكم لقسام فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة وهو ابن أخت أبي محمود فخرج إلى يلتكين وهو يظن أنه يريد إصلاح البلد فأمره أن يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد ففعلوا‏.‏

وحذر قسام وأمر من معه بمباشرة الحرب فقاتلوا دفعات عدة فقوي عسكر يلتكين ودخلوا أطراف البلد وملكوا الشاغور وأحرقوا ونهبوا فاجتمع مشايخ البلد عند قسام وكلموه في أن يخرجوا إلى يلتكين ويأخذوا أمانًا لهم وله فانخذل وذل وخضع بعد تجبره وتكبره وقال‏:‏ افعلوا ما شئتم‏.‏

وعاد أصحاب قسام إليه فوجدوه خائفًا ملقيًا بيده فأخذ كل لنفسه‏.‏

وخرج شيوخ البلد إلى يلتكين فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام فأجابهم إليه وقال‏:‏ أريد أن أتسلم البلد اليوم فقالوا‏:‏ وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين لعشر بقين منه والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر فأخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم ثم خرج إلى الخيام فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه فأخذه وحمله إلى يلتكين فحمله يلتكين إلى مصر فأطلقه العزيز واستراح الناس من تحكمه عليهم وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه وكان عضد الدولة إذا أراد الإيقاع بين الملوك أمره أن يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد إفساد الحال بينهما ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه فيفسد الحال‏.‏

وكان هذا الأحدب ربما ختمت يده لهذا السبب‏.‏

وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف وغرق كثير من الغلات وتمردت الصراة وخربت قناطرها العتيقة والجديدة وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت‏.‏

وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها ستة وخمسون رطلًا وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي‏.‏

وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي إمام الفقهاء الحنفية في زمانه وطلب ليلي قضاء القضاة فامتنع وهو من أصحاب الكرخي‏.‏

وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي سمع البغوي وابن صاعد وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها وسمع فيها الكثير وتوفي بالموصل هذه السنة ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد المعروف بغندر توفي بمفازة بخارى وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني والحسن ابن بشر الآمدي‏.‏

وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيزي وقام بعده جيش بن الصمصامة‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة

في هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش‏.‏

وكان سبب ذلك أن الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر وهو صبي استوزر أبا الحسين العتبي فقام في حفظ الدولة القيام المرضي وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان وطالت أيامه فيها فلا يطيع إلا فيما يريد فعزله أبو الحسين العتبي عنها واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش وسيره من بخارى إلى نيسابور

في هذه السنة فاستقر بها ودبر خراسان ونظر في أمورها وأطاعه جندها‏.‏

  ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجان

في هذه السنة في جمادى الآخرة استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير‏.‏

وسبب ذلك أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة فلحق بقابوس كما ذكرناه وبلغ ذلك عضد الدولة فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد والأموال والعهود وغير ذلك ليسلم إليه أخاه فخر الدولة فامتنع قابوس من ذلك ولم يجب إليه‏.‏

فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة وسيره ومعه العساكر والأموال والعدد إلى جرجان‏.‏

وبلغ الخبر قابوسًا فسار إليه فلقيه بنواحي أستراباذ فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور فلما وردها لحق به فخر الدولة وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما‏.‏

وكان وصولهما إليها‏.‏

عند ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما وكتبا أيضًا إلى نوح يعرفانه حالهما ويستنصرانه على مؤيد الدولة‏.‏

فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره بإجلال محلهما وإكرامهما وجمع العساكر والمسير معهما وإعادتهما إلى ملكهما وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضًا‏.‏

  ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان

فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس جمع العساكر وحشد فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها وبها مؤيد الدولة ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير إلا أنهم لا يقاربون عساكر خراسان فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم وضاقت الميرة على أهل جرجان حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان في شهر رمضان على عزم صدق القتال إما لهم وإما عليهم‏.‏

فلما رآهم أهل خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات يكون قتال ثم تحاجز فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا فرأوا الأمر خلاف ما ظنوه‏.‏

وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان يسمى فائق الخاصة وأطعمه ورغبه فأجابه إلى الأنهزام عند اللقاء وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به محله من الدولة‏.‏

فلما خرج مؤيد الدولة هذا اليوم حمل عسكره على فائق وأصحابه فانهزم هو ومن معه وتبعه الناس وثبت فخر الدولة وحسام الدولة في القلب واشتد القتال إلى آخر النهار فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى وأخذوا من الأقوات شيئًا كثيرًا‏.‏

وعاد حسام الدولة وفخر الدولة وقابوس إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأتاهم الجواب يمنيهم ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور فأتوها من كل حدبٍ ينسلون فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من المرة الأولى وحسام الدولة ينتظر تلاحق الأمداد ليسير بهم فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي فتفرق ذلك الجمع وبطل ذلك التدبير‏.‏

وكان سبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله فوثبوا به فقتلوه فلما قتل كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدبر دولته ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسين فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين وكان قتله سنة اثنتين وسبعين‏.‏